الأسلحة والأطفال Poem by بدر شاكر السياب

الأسلحة والأطفال

الأسلحة والأطفال
عصافير أم صبية تمرح
عليها سنا من غد يلمح
وأقدامها العاريه
محار يصلصل في ساقيه
لأذيالهم رفة الشمأل
سرت عبر حقل من السنبل
وهسهسة الخبز في يوم عيد
وغمغمة الأم باسم الوليد
تناغيه في يومه الأول
كأني أسمع خفق القلوع
وتصخاب بحاره السندباد
رأى كتره الضخم بين الضلوع
فما اختار الاه كترا وعادا
صدى عابر من وراء العصور
من الكهف والغاب والمعبد
سرى دافئا من عروق الصخور
وازميل نحاتها المجهد
يغني بأشواقه العاتيه
الينا الى القمه العاليه
الى أن يفل الردى بالحياه
وتلقاه أجيالها الآتيه
على صخرة حملتها يداه
تحاياه في بسمة في الشفاه
وفي أعين حجرت مقلتاه
عليها دموعها الجاريه
صدى رجعته الأكف الصغار
يصفقن في الشارع المشرق
كخفق الفراشات مر النهار
عليها بفانوسه الأزرق
وكم من أب آيب في المساء
الى الدار من سعيه الباكر
وقد زم من ناظريه العناء
وغشاهما بالدم الخاثر
تلقاه في الباب طفل شرود
يكركر بالضحكة الصافيه
فتنهل سمحاء ملء الوجود
وتزرع آفاقه الداجيه
نجوما وتنسيه عبء القيود
وهم في ليالي الشتاء الطوال
ربيع من الدفء والعافيه
تلم العجائز فيه الورود
ويلمحن عهد الصبا ثانيه
ويرقصن بين التلال
يرجحن أرجوحة في الخيال
بعذراء في ليلة مقمره
وفي ظل تفاحة مزهره
تنام العصافير فيها
وهم في الصباح
خطى خافقات على السلم
وأيد على أوجه النوم
يدغدغنها في مزاح
وأغنية من أغاني الطريق
يلحن سوى لحنها الأول
وشأو من الصوت مستعجل
وهم رفقة الأم اذ تستفيق
واذ تشعل النار في الموقد
كخيط ترى فيه بدء الغد
عصافير أم صبية تمرح
أم الماء من صخرة ينضج
فيخضل عشب وتندى زهور
زهور ونور
وقبرة تصدح
وتفاحة مزهرة
لخفق العصافير فيها
صدى قبلة الأم تلقى بنيها
دعيني فما تلك بالقبرة
دعيني أقل أنه البلبل
وان الذي لاح ليس الصباح
أتلك السفين التى تعول
على مرفا ناوحته الرياح
تلوح منهاأكف الجنود
لألف كجولييت فوق الرصيف
وداعا وداع الذي لا يعودا
وأم كما استوحشت في الخريف
وراء الدجى دوحة عاريه
وفرت عصافيرها الشاديه
عصافير أم صبية تمرح
أم الماء من صخرة ينضح
ولكن على جثة داميه
وقبرة تصدح
ولكن على خربة باليه
عصافير
بل صبية تمرح
وأعمارها في يد الطاغية
وألحانها الحلوة الصافيه
تغلغل فيها نداء بعيد
حديد عتيق
رصاص
حديد
وكالظل من ياشق في الفضاء
اذا اجتاح كالمدية الماضيه
عصافير تشدو على رابيه
ترامى الى الصبية الأبرياء
نداء تنشقت فيه الدماء
حديد عتيق
حديد عتيق
رصاص فحتى كأن الهواء
رصاص وحتى كأن الطريق
حديد عتيق
وينفض كالمعول الحافر
صدى راعب من خطى التاجر
له الويل ماذا يؤيد
حديد عتيق
رصاص
حديد
لك الويل من تاجر أشأم
ومن خائض في مسيل الدم
ومن جاهل أن ما يشتريه
لدرء الطوى والردى عن بنيه
قبور يوارون فيها بنيه
حديد عتيق
رصاص
حديد
حديد عتيق لموت جديد
حديد
لمن كل هذا الحديد
لقيد سيلوى على معصم
ونصل على حلمة أو وريد
وقفل على الباب دون العبيد
وناعورة لاغتراف الدم
رصاص
لمن كل هذا الرصاص
لأطفال كورية البائسين
وعمال مرسيليا الجائعين
وأبناء بغداد والآخرين
اذا ما أرادوا الخلاص
حديد
رصاص
رصاص
رصاص
حديد
وأصغي الى التاجر
وأصغي الى الصبية الضاحكين
وكالنصل قبل انتباه الطعين
وكالبرق ينفض في خاطري
ستار وكالجرح اذ يترف
أرى الفوهات التى تقصف
تسد المدى واللظى والدماء
وينهل كالغيث ملء الفضاء
رصاص ونار ووجه السماء
عبوس لما اصطك فيه الحديد
حديد ونار حديد ونار
وثم ارتطام وثم انفجار
ورعد قريب ورعد بعيد
وأشلاء قتلى وأنقاض دار
حديد عتيق لغزوجديد
حديد ليندك هذا الجدار
بما خط في جانبيه الصغار
و ما استودعوا من امان كبار
سلام
كان السنا في الحروف
تخطى اليها ظلام الكهوف
بامال انسانها الاول
و ما اختط من صورة في الحجار
تحدى بها الموت فهي انتصار
و توق الى العالم الافضل
حديد
رصاص
حديد عتيق
رصاص ليخلو هذا الطريق
من الضحكة الثرة الصافيه
و خفق الخطى و الهتاف الطروب
فمن يملا الدار عند الغروب
بدفء الضحى و اخضلال السهوب
لظى الحقد في مقلة الطاغيه
و رمضاء انفاسه الباقيه
يطوفان بالدار عند الغروب
و اطلالها الباليه
حديد عتيق
نحاس عتيق
و اصداء صفارة للحريق
حديد حديد
و ام تبيع السرير العتيق
تبيع الحديد الذي امس كان
مهادا عليه التقا عاشقان
و شد نداء الحياة العميق
دراعا باخرى فما تخفقان
فيا حسرتا حين يمسى غدا
شظايا تدوي و بعض المدى
تنحى بها عن ذراع ذراع
و ينهد مهد و يخبو شعاع
امن حيث كان التقاء الشفاه
على الحب ينسجن خيط الحياه
يحوك الردا غزله الاسودا
دما او دخانا يحوك الردى
شباكا من النار حول البيوت
على صبية او صبايا تموت
و يرتد حتى حديد السرير
جناحا عليه المنايا تغير
و حتى الذي في عيون الدمى
من المعدن الزئبقي الحسير
رصاصا ابح الصدى مرزما
حديد عتيق حديد حديد
و اقدامها العاريه
محار يصلصل في ساقيه
و يعتاد بالي كرعد بعيد
ضجيج الخطى و انهيار الصخور
و خفق الفوانيس في المنجم
و ما نض من عاريات الظهور
و ما انسح في سعلة من دم
و ملء السنا من غبار الحديد
نواقيس فيها يرن السكون
و اجراس مركبة من بعيد
يخف لها صبية يلعبون
نواقيس في الفجر و اليوم عيد
و في الماء اضلال جسر جديد
و همس النواعير و الزارعون
و في كل حقل كنبض الحياه
تهز المحاريث قلب الثرى
و تبني القرى
قرى طينها من رميم الطغاه
و تخضل حتى الصخور الضنينه
و يثمر حتى سراب الفلاه
مدينه
فاخرى فاخرى الى منتهاه
حديد حديد
و اقدامها العاريه
و خفق الفوانيس في المنجم
و اعماقه الرطبة الداجيه
كظل الردى فاغرات الفم
كبئر من الظلمة الطاميه
ستمتاح منها الوف القبور
و يهوي من الزعزع العاتيه
عمى من دجاها على كل نور
على النور من باب كوخ مضاء
ومن كوة في خيام الرعاء
ومن شرفة ظلها الياسمين
دعيني اقل انة البلبل
وان الذي لاح ليس الصباح
على النور من موقد السامرين
ومن مدرج بالسنا يغسل
على كل نور تذر الرياح
ظلال الطواغيت في المنجم
كناعورة لاغتراف الدم
تذر الرياح الرياح الرياح
أراجيح في الملعب المظلم
وخفق الفوانيس والأنجم
وخفق الخطى والأكف الصغار
وخفق الفراشات مر النهار
عليها بفانوسه المعتم
فمن يملأ الدار عند الغروب
بدفء الضحى واخضلال السهوب
رصاص حديد رصاص حديد
وآهات ثكلى وطفل شريد
ومن يفهم الأرض أن الصغار
يضيقون بالحفرة الباردة
اذا استترلوها وشط المزار
فمن يتبع الغيمة الشارده
ويلهو بلقط المحار
ويعدو على ضفة الجدول
ويسطو على العش والبلبل
ومن يتهجى طوال النهار
ومن يلثع الراء في المكتب
ومن يرتمي فوق صدر الأب
اذا عاد من كده المتعب
ومن يؤنس الأم في كل دار
أسى موجع أن يموت الصغار
أسى ذقت منه الدموع الدموع
أجاجا ومثل اللظى في الفم
وأحسست فيه اشتعال الدم
بعيني من نازفات الضلوع
عويل من القرية النائية
وشيخ ينادي فتاه الغريق
بهذا الطريق وذاك الطريق
ويسعى الى الضفة الخالية
يسائل عنه المياه
ويصرخ بالنهر يدعو فتاه
ومصاباحه الشاحب
يغني سدى زيته الناضب
محال تراه
ويحتو على الصفحة القاتمه
يحدق في لهفة عارمه
فما صادفت مقلتاه
سوى وجهه المكفهر الحزين
ترجرجه رعشة في المياه
تغمغم لا لن تراه
حديد عتيق ورعب جديد
حديد
رصاص
لأن الطغاه
يريدون ألا تتم الحياه
مداها وألا يحس العبيد
بأن الرغيف الذي يأكلون
أمر من العلقم
وأن الشراب الذي يشربون
أجاج بطعم الدم
وأن الحياه الحياه انعتاق
وأن ينكروا ما تراه العيون
فلا بيدر في سهول العراق
ولا صبية في الضحى يلعبون
ولا همس طاحونه من بعيد
ولا يطرق الباب ساعي البريد
يبشرى ولا مترل
يضيء الدجى منه نور وحيد
سخي كما استضحك الجدول
ولا هدهدات ولا جلجل
يرن بساق الوليد
وبين الربى في رقاب الجداء
ولا وسوس الشاي فوق الصلاء
ولا قصة في ليالي الشتاء
لأن الطواغيت لا يسمعون
صداح العصافير في المغرب
كما صلصل الفضة القامرون
ولا زفة السنبل المذهب
لأن الطواغيت لا يحلمون
بغير المبيعات والأسهم
ان الطواغيت لا يسمعون
سوى رنة الفلس والدرهم
لأن الطواغيت لا يبصرون
على الشاطىء الأسيوي البعيد
سوى أن سوقا يباع الحديد
وتستهلك الريح والنار فيها
تدر العطايا على فاتحيها
بأقدام أطفالنا العاريه
يمينا وبالخبز والعافيه
اذا لم نعفر جباه الطغاه
على هذه الأرجل الحافيه
وأنلم نذوب رصاص الغزاه
حروفا هي الأنجم الهاديه
فمنهن في كل دار كتاب
ينادي ففي واصدأي يا حراب
وأن لم نضو القرى الداجيه
ولم نخرس الفوهات الغضاب
ونجل المغيرين عن آسيه
فلا ذكرتنا بغير السباب
أواللعن أجيالنا الآتيه
سلام على العالم الأرحب
على الحقل والدار والمكتب
على معمل للدمى والنسيج
على العش والطائر الأزغب
على التوت وسنان فيه الأريج
ووقح المجاديف في المغرب
على زهرة في وساد العروس
على صبية في انتظار الأب
على شاعر تستحم الشموس
بعينيه يصغي الى جندب
سلام على العالم الأرحب
سلام على الكنج فاض النعيم
ورنت أغاريد في ضفتيه
قرى من سنا عاصرات عليه
عناقيد من ضوئهن العظيم
سلام على الصين والحاصدين
وصياد أسماكها الأسمر
وما أنبتت من دم الثائرين
وما افتر في البيرق الأحمر
على صبية في قراها البعاد
وفي ظل تفاحها المزهر
وما جررت في ليالي الحصاد
ثيان العذراى على البيدر
سلام لأن الربيع
يمر بودياننا كل عام
وما زال قوس الغمام
ولولا الذي كدسوا من نضار
به يستضيئون دون النهار
تجوع الملايين عن جانبيه
وينحط في كل يوم عليه
دم من عروق الورى أو نثار
كذر الغبار
لما هزت الأمهات المهود
على هوة من ظلام اللحود
ولم تذرف الدمع عبر البحار
وعبر الصحارى نساء الجنود
ولم يرفع الزراع الأشيب
الى مقلتيه اليد الراجفه
يحدق في عتمة العاصفه
ويصغي وفي روعه القاصفه
ولم يبك صرعى بنيه الأب
جزوعا بأن يثكل الآخرين
ولا شردت نومة العاشقين
كوابيس من أعين الهالكين
وارنان صفارة تنعب
وغى فاستفاقوا ولا كوكب
ولا لمعة من سراج تبين
سوى قعقعات السلاح
وعصف الرياح
ولا ساءل الأم طفل غرير
ألا بلدة ليس فيها سماء
فلا قاذفات المنايا تغير
ولا من شظايا تسد الفضاء
ولا اختض في الصرصر اللاجئون
ولألاء يافا تراه العيون
وقد حال من دونه الغاصبون
بما أشرعوا من عطاش الحراب
وما استأجروا من شهود كذاب
وما صفحوا بالردى من حصون
سلام على العالم الأرحب
على مشرق منه أو مغرب
سلام لآفون لروى عروق
شكسبير والزهر والداليه
أفق شاعر النور أن الشروق
تهدده غيمة داجيه
سعى مكبث تحتها في احتراس
لقتل النعاس
لقتل النعاس البريء
سلام لباريس روبسبيي
والوار والغابة الحالمه
وعشاقها في المساء الأخير
تذريهم قوة ظالمه
كدوامة من رياح السعير
على تونس من لظاها ظلال
وحول الرباط المدمى هدير
وفي جيرة الصين حل انخذال
بقطعانها الفظة الضارية
لك المجد يا أسيه
سلام لفينيس والكرنفال
وأضوائه الثرة الزاهيه
وهمس المحبين بين الظلال
وفي دفء قمرائه الضاحيه
عصافير أم صبية تمرح
أم الماء من صخرة ينضح
وأقدامها العاريه
مصابيح ملء الدجى تلمح
هتكنا بها مكمن الطاغيه
وظلماء أو جاره الباليه
علينا لها أنها الباقيه
وأن الدواليب في كل عيد
سترقى بها الريح جذلى تدور
ونرقى بها من ظلام العصور
الى عالم كل ما فيه نور
رصاص رصاص رصاص حديد
حديد عتيق
لكون جديد

COMMENTS OF THE POEM
READ THIS POEM IN OTHER LANGUAGES
Close
Error Success